أبي الذي أكره: التعافي من إساءات الأبوين-2
بقلم: د. عماد رشاد عثمان
كانوا يتوارثون الخوف أبًا عن جد!
كان الخوف يبدأ بولادتهم ولا ينتهي إلا مع موتهم!
ولذلك كانوا يطلقون على هذا الخوف اسم الحياة!
(نيكوس كازانتازاكيس)
كلما كانت الصدمات مبكرة كانت تلك النتائج أكثر تجذُّرًا، وكلما كانت الإساءات من الأقربين كلما تأصَّلت تلك النتائج في التكوين، وكلما ساهمت بشكل أكبر في البناء النفسي لأصحابها.
فكما يُقال إن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؛ فإن الصدمات والإساءات في الصغر أيضًا تنحت نقوشها على مادة التكوين الليَّنة (الطرية) التي لم تجف بعد، لذا تبقى آثارها.
ومن تلك الخصائص (افتقاد الأمان)، كنظرة أكثر عمومية للعالم.. بمعنى رؤيته كمكان خطر وموحش، واعتقاد متجذر محوري (أن شيئًا ما سيئًا سيحدث)، لا نفهم كُنه هذا الاعتقاد وقد لا نجد له أسبابًا واقعية، فالأسباب لا اعتبار لها، فحين جاءتنا الصدمة وحين حلَّت بنا الإساءات لم تكن الأسباب وجيهة بما يكفي لتصنع منطقًا لنا، فقط أوذينا بأسباب واهية، وكانت تبريرات الإساءة غير متناسبة مع أفعالنا، لذا انفرط عقد المنطق داخلنا ولم تعد الأحداث بأذهاننا بحاجة أن تكون مسببة بشكل منطقي، أو أن تخضع للسلسلة السببية، فأصبح شعورنا بانعدام الأمان قائم وإن لم يكن له سبب حالٍ قائم معه.
يقول أحدنا:
“لما أبويا يبقى بيعاقبني عقوبة مفرطة على أسباب تافهة، مش غريب إني أمشي في الدنيا حاسس إن فيه مصيبة حتحصل حتى لو مفيش أسباب واضحة لحصولها”.
فحين تَسرق منا الإساءةُ الأمانَ الداخلي؛ يحلّ محلَّه الخوف الدائم؛ الخوف بأن الأمر سيتكرر وأن الخطر لم يَزلْ عنا، وأننا محاصرون ووحيدون، ثم تغيب الصدمة ويبقى أثرها الشعوري في هذا الخوف المبهم.
هنا تبذر الإساءة بذرة القلق التي ستنمو وتزهر ويشتد جذعها وتزيح أغصانها الكثيفة نور السكينة والطمأنينة عن الوصول إلينا.
القلق المبهم العام. القلق السمج الثقيل. الوحش الأسود الذي طالما تطفل على حياتنا مقرِّرًا إفساد كل شيء جميل.. متخذًا أشكالًا عديدة: القلق من الغد.. من المجهول.. من الآخرين.. من المستقبل.
فقد كانت طفولتنا أشبه ساحة حرب وكنا دومًا تحت القصف.. وقد توقف انهمار القذائف الآن ولكننا لم نزل متأهبين نترقب المزيد منها.
قد انتهت الحرب ولكن أجسادنا لم تمنحنا الهدنة، ولذا يسمى (كرب ما بعد الصدمة)… فالصدمات لا تنتهي بتوقفها إنما يعقبها (الكرب).
وعدم الأمان المادي الذي يهمس لنا: (سنفتقر، سنخسر العمل، لن يكون لدينا من المدخرات ما يكفي حين تطلُّ المصائب القادمة، وظيفتك مهددة)! فلا عجب أن نحيا متحفزين ومتأهبين ونقوم بتأول كل تعثُّر أو اضطراب خافت حولنا ونراه كتهديد مباشر لأماننا المادي، ولا عجب أن تنتهي علاقات العمل حولنا بالتخوين والصراع وإرهاق المناوشات الدائمة.
نسير كجندي متأهب في وسط قتال ضار يتلمس موضع الضربة القادمة.
لسنا بخلاء، ولسنا مهووسين بالمال، ولكننا ربما نسعى لتجميعه واقتنائه نتاجًا لهذا الخوف الاقتصادي الذي يحتلُّنا، ونجلد أنفسنا صباح مساء لأننا لم نحصل على ما يكفي، وإن حصلنا فإننا لم ندخر ما يكفي، وإن ادَّخرنا فإننا لم نستثمر بما يكفي.. وهكذا؛ جوع مديد للمال نبت هناك فوق أساس من جوعنا للأمان!
ونظرًا لأن الإساءة تجعلنا نبدأ في الإيمان نفسيًّا بالعبثية والعشوائية، فقد نرى الوجود يفتقد المعنى ويفتقر للغائية. ولا عجب أن تجد كثيرًا منا يلجأ للسخرية الدائمة المريرة كدفاع نفسي، ويلجؤون للتصورات العدمية، فلا شيء يستحق، ولا شيء ذو معنى، بل قد يكون هذا مدخلنا النفسي للإلحاد وعدم قدرتنا على ابتلاع فكرة وجود إرادة حكيمة تحكم هذا العالم، وتحدد وجهته، فما نراه من عدسة الصدمة هو أن الكون يخبط خبط عشواء، ويمتلئ بالعبث والمصادفة.
ربما لم يفهم أحد أن توجهات بعضنا الناقمة على العالم، والساخطة على السماء، والرافضة لفكرة الغائية والحكمة التي ترتكز عليها الديانات، لم تكن تلك التوجهات سوى نِتاجًا لتجربتنا التي أفقدتنا القدرة على تذوق الأمان في العالم.
الأزمة نفسية عميقة في تكويننا؛ فإن الإيذاء والصدمات منحنا شعورًا بأننا وحدنا وأنه لا مهرب لنا، ولا أحد ينقذنا مهما كرَّرنا الاستغاثة، لذا كبرنا بنفس الشعور: (أننا وحدنا في هذا العالم ولا أحد يكترث لأمرنا!).
لذا لم يستطع بعضنا ابتلاع المعتقد الديني القائل بإله عظيم قادر يتدخل بعنايته في حياتنا؛ لأن ندوبنا تشهد لنا باللاعناية، وجراحنا تخبرنا أن انتظار الإنقاذ وهم، بل إن بعضنا في تجربته لطالما لهج بالدعاء للرب يطلب الغوث الذي لم يأت.
وعلى النقيض فإن بعضنا قد هرع للدين لبعض الوقت، لسنوات حاولنا تسكين الوجع بفكرة الحكمة الخفية أو المثوبة المؤجلة، ولكن لا محالة كان يخرج الغضب على السطح وتنفجر خزانات السخط المكبوت يومًا لتتجه نحو الله أو العقيدة الدينية، وحينها نتحول في عين البعض إلى مجدفين أو مشككين في الدين، ويروننا نشكل نوعًا من الخطورة بتساؤلاتنا التي تبدو متعقلنة ولكن في حقيقتها ليست سوى عرض من أعراض صدمة ووجيعة دفينة.
والإساءة تسرق منا المعنى في الحياة، والشعور بالاتجاه نحو غاية ما، ويضيع منا شعور القصدية، وكأننا نحمل بوصلة معطوبة تدور حول نفسها ولا يمكنها أن تشير لنا إلى أي اتجاه نسير ونحو أي شيء نقصد!
ندور في التوهة والحيرة، نتلمس طرقًا عديدة بحثًا عن المعنى، نتردد بين الأيديولوجيات والفلسفات، ننقب في الكتب والأفكار لعلنا نجد المعنى الغائب المسروق منا، فلا نجد؛ لأننا ننسى أن المعنى قد سُرِق منا نفسيًّا لا عقليًّا، وأن البحث الفلسفي لن يزيدنا إلا توهة؛ لأن جوعنا للمعنى تكويني لا ذهني، ونفسي لا فكري، وأن العمل لا يكون هناك بين صفحات الكتب وفي أروقة الأيديولوجيات، إنما هناك بين طيات نفوسنا وفي التعافي من آثار الإساءة التي تجرَّعناها.
ننسى أن المعنى الذي يناسبنا ويلائمنا ويرضينا ويشبعنا لن نجده مهما بحثنا إلَّا حين نتجه نحو التعافي ونخوض تجربة الشفاء، وأحد أهم مكتسبات التعافي هو عودة المعنى.
والمعنى الناتج عن عملية التعافي ليس واحدًا عامًّا مطلقًا للجميع، إنما هو المعنى الذي يلائم كلًّا منا في تجربته. وربما يعود بعضنا لمعنى لم يكن يستطيع تصديقه بفعل الإساءة، ولكن التعافي قد أزاح حواجز التصديق وحجاب التلامس مع المعنى.
منطلقات الإساءة الروحية
إننا للأسف أثناء تنشئتنا تقوم نفوسنا الناشئة بالخلط بين الله وبين السلطة الأبوية؛ لعدم قدرتنا على استيعاب الحقائق المجاوزة لعمرنا من الغيبيات، فيضع المخ الله والدين والغيبيات في سلتين.
- سلة السلطة الأبوية، فالله هو من يضع الأوامر كأبي ويعاقب ويثيب، فعقوبته أبوية، أما مثوبته فمتعلقة بتصورنا عن الأمومة.
- والغيبيات تصب في سلة الفانتازيا، فالملائكة كجنيات الكارتون، والجنة كتصورات ديزني، ولا بأس بهذا، فتلك عقول الأطفال، وهي تنضج مع الوقت.
لكن المشكلة تحدث إذا حدث خلل ما في علاقة الطفل بأبويه، فالأب المنتقد مثلًا يؤدي الخلط بينه وبين نموذج الله إلى نشوء ضمير ديني جلَّاد وصوت خلفيًّ دائم الصفع عند كل فعل.
والأب الجافي. بسبب ذلك الخلط يشوه أيضًا صورة الله المتعلقة بالسلطة الأبوية لدى المراهق والبالغ فيما بعد، فيشعر دومًا أن الأرض محروقة بينه وبين ربه، لا سبيل للوصول إليه، ولا إمكان له في القرب. يشعر دومًا أنه منبوذ من السماء محرومً من إيلاف الرب.
كما أن خطايا الآباء المتدينين الذين يحاولون تربية أولادهم على الدين تختلط في عقول الأطفال بينها وبين الدين نفسه، وربما بين وجه أبيه البغيض وبين وجه الله، فلا نعود نعرف حينها الفرق بين غضبنا من الدين وبين غضبنا من المتدينين، وهل كانت مشكلتنا مع الدين في أصوله أم في المنابع التي استقيناها منه؟
كما أنه في مرحلة التمرد (كالمراهقة أو أزمات الهوية) يتمرد الناشئ منا على تلك السلطة الأبوية، ويحاول التحرر من نموذج الأب، ولأننا ربما لا ندرك الخلط الحادث في الطفولة، فقد ينتهي بنا الأمر أن نضع صورة الله في سلة المتروكات، فنبتعد خانقين ولا نعود إلا حين نجد الله بأنفسنا لا عبر توصيات الأب والأم.
الحقيقة أنه لا أحد يصل لله بتربية أبوية؛ بل على كل منا أن يجد الله بنفسه ويصل لصيغته الشخصية من الدين أو الروحانية ومعادلته الخاصة الملائمة لنفسه.
بل إننا حين نصبح آباءً نكرر المأساة ونرتكب حماقات في حق أطفالنا، ولو ارتبطت حماقاتنا تلك بصورة الله في وعيهم لأحرقنا لهم أرض الوصول.
ولم يكن علينا سوى التربية السوية، والمراهنة على الإنسانية المبرمجة في نفوسهم، وأن نترك الأطفال وشأنهم دون توحش الوصاية الأبوية، ولنحرص فقط على مسؤوليتنا في الرعاية والاعتناء والكف عن الأذى والتشويه.
وإن كثيرًا من المتعثرين في علاقتهم بالله ربما ينتج هذا التعثر في حقيقته بسبب مشكلات في ارتباطهم بالوالدين، حدث جراءها تحويل انفعالي لغضبهم وتمردهم على السلطة الأبوية إلى نموذج الله والدين، فلا عجب أن كثيرًا من الملحدين يكبرون تحت آباء ملتزمين ولكنهم أغبياء بما يكفي ليقصوهم عن طريق الله.
حضرة المحترم.. الصنم!
إن لكل إنسان حماقاته،
لكن الحماقة الكبرى في رأيي هي ألا يكون للإنسان حماقات!
(نيكوس كازانتزاكيس)
يومًا ما، حين كنت أعد إحدى صباحاتي للنزول كانت زوجتي كعادتها تمارس أحد إدماناتها المميزة باستنشاق جرعة من النوستالجيا عبر مشاهدة حلقة من مسلسل قديم.
وكان مسلسل هذا الصباح (حضرة المتهم أبي) وكانت الشخصية التي يؤديها نور الشريف في مشهدين أو ثلاثة صودف أن رأيتهم عنوة أثناء حواري مع المشط والحذاء. كفيلة بإصابتي بالدوار!
فلم يكن أبًا مؤذيًا أو مسيئًا أو لاهيًا أو مصابًا بمراهقة متأخرة. إنما كان أبًا مثاليًّا… مثاليًّا بإفراط، مثاليًّا حد الإرهاق. كان شيئًا لا يمكن ابتلاعه.
إن هذا النموذج المثالي (سواء مثالي في حقيقته أو في ظاهرة فقط) سيصدر لأطفاله تصورًا لنوع من (القوة المطلقة) omnipotence. وتوهمًا لمقدرة استثنائية على التحكم في الدوافع والغرائز والميول، وظنًا لوجود نوع من الخيرية المتناهية.
والأهم.. أنه. وبناءً على نموذج حضرة المحترم. يتم امتصاص هذا النموذج. كما شرحنا. وتمثيله داخل النفس ثم إسقاطه على صورة الإله. فيتم إدراك الرب كنموذج مكبر من (حضرة المحترم).
لذا نجد تشوهًا في صورة الإله يحدث لدى الناشئين في بيوتٍ كتلك؛ نموذج “الإله القياسي”، تصور مشوه عن الإله أشبه بكونه يعمل مراقبًا للجودة!!
ستبدو حينها صورة الله النفسية عميقًا داخل النفس وكأنه يمسك (مازورة) و(مسطرة) يقيس بها أفعالنا وأهليتنا، وكأنه يحمل دومًا قائمة بالمهام التي ينبغي أن نؤديها وكيفية أدائها.
الأم التي تروي.. أكثر من اللازم!
ومن أكثر أنواع الإيذاء نعومة وخفاءً (ولا يحدث بقصد الإساءة، ولكن الطريق للجحيم مفروش بحسن النوايا) هي تلك الأم الانفعالية التي تصب في أذن أطفالها (وبالأخص البنات منهم) كل شكايتها ووجيعتها، وتروي لها تفاصيل الخيبات والخذلان، تظن أنها بهذا تجعلهن صديقات لها.
وهي ببساطة إنما تسيء فهم (صحبة الأبناء) وتخلط بين صداقة أطفالنا وبين استغلالهم!
وربما لكون الأم لا تجد صديقة وليس بجوارها من يستمع أو يتفهم، فتعمد إلى ابنتها فتجعلها حوض تفريغ لتقيؤاتها النفسية!
فتتحول الصغيرات إلى (كيس رمل) تنفيسي، تفرغ فيه الأم بالحكي كل شحناتها السلبية من الحسرة والحيرة والملل والغيرة، تجعلهن الشفقة يتحولن لحوض تفريغ ينزح آبارها الفائضة، ثم لا تجد الطفلة من بعدها من ينزح آبارها!
فتنشأ الفتاة مشحونة بمشاعر مستوردة، تحتشد في نفسها أحاسيس دخيلة تقمصت فيها أمها؛ تمتلأ الفتاة بانفعالات لا تنتمي إليها، إنما أصابتها جراثيمها من حكايا الأم.
فتمتلئ بالغضب، وانعدام الأمان، وربما التوجس وخوف الغد، وربما القلق وفوبيا القرب، وكثير من خوف الفقد، وانعدام الثقة!
فأمها (الصديقة المتوهمة) قد حرقت داخلها عذرية الشعور!
تروي لابنتها قسوة الأب وجفوته، وقد تخبر فتاتها عن نزواته وفجراته، وتحدثها عن فرص موازية أهدرتها من أجل أبيها الذي لم يقدر ذلك وأفنى عمرها مجانًا وبلا امتنان، بل إن هناك من الأمهات من تبوح لابنتها عن أداء والدها الجنسي!.
ومبررها الدائم لتلك الشكايات التي يتعرض لها الأطفال مبكرًا (أنا مستحملة عشانكم)، فتتسلل بالتالي مشاعر الذنب و(شعور بالمشاركة في الجرم الواقع عليها) لنفوس الأبناء.
تعلل ذلك بأنها (تصادقها) أو (تودكها) وتمنحها خبرة الأمومة والزوجية لمستقبلها!
تلك الأم غالبًا ما ترى نفسها أعظم المضحيات ومليكة العطاء والضحية الخاسرة الوحيدة وتُصدِّر لأبنائها نفس الاعتقاد فتتعمق مشاعر الذنب أكثر.
والطفلة الهشة تتقمص أمها انفعاليًّا وتسمح لمشاعر دخيلة غريبة عنها ولمواقف لم تحيها أن تغزو نفسها وتحتلها وتتلبسها المرارة لطعومٍ لم تذقها بنفسها.
وهنا تدخل مرحلة جديدة من الأزمة، وهو ما نسميه (التطابق) أو (الاستدماج)، حين تعمد الفتاة إلى مطابقة نفسها بالأم، فتتحول إلى نسخة أخرى منها بكامل خصائصها الانفعالية.
وأحيانًا ربما تصبح طرفًا في المشكلات أو خصمًا في صراعات لا تلائم عمرها أو مرحلتها من النمو النفسي!
تجد الفتاة مكتئبة في سنوات تالية والأم تتساءل: (كيف أصابها الاكتئاب ونحن قد كنا خير صديقتين، وكيف تسلل لها الشعور باللاجدوى وقد كنا نفصح لبعضنا عن كل شيء)!
إن تلك لم تكن صداقة قط، إنما طور من أطوار الإساءة النفسية للأبناء حين نحقنهم بوجيعتنا.
وربما تتحول إلى نفس الطريقة يومًا مع أبنائها، فهي لم تشهد من الكون سواها، وتبدأ في تعريف العلاقة بين الأم وابنتها من خلال ممارسات الأم القديمة معها!
وتستمر الحلقة المفرغة المتوارثة من الإيذاء غير المتعمد!
- 4. الخزي
“ميت هو من يتخلى عن مشروع قبل أن يهم به، ميت هو من يخشى أن يطرح الأسئلة حول المواضيع التي يجهلها، ومن لا يجيب عندما يُسأل عن أمر يعرفه. ميت هو من يجتنب الشغف ومن لا يجازف باليقين في سبيل اللايقين من أجل أن يطارد أحد أحلامه”.
(بابلو نيرودا)
ما علاقة الإساءات بشعور الضحية بالخزي والعار؟!
أتذكر يوم سمعت تلك الرابطة للمرة الأولى فكنت مندهشًا كمن أصابته صدمة! متسائلًا كيف يتم ذكر الكلمتين في عبارة واحدة، ما علاقة (الخزي الذاتي) بالتعرَّض للإساءات؟!
كيف يمكن للضحية أن تشعر بالذنب، أو الخزي؟!
عشتُ عمرًا لا أفهم أن هناك رابطًا بين جروحنا وصدماتنا ومآسي تاريخنا التي تَشكَّلنا في تربتها وبين شعورنا بالخزي وحاجتنا للاختباء!
فتعلمتُ – متأخرًا للغاية. أن النشأة تحت سطوة ذلك الأب المؤذي أو الأم المسيئة لا تجعل الأبناء يكبرون وهم يكرهون آباءهم، إنما يكبرون وهم يكرهون أنفسهم!
يتحول الخزي ليكون (جوهر) البناء النفسي لدى الناجين.
فما هو الخزي؟ Core shame/Toxic shame
هو شعور مركب من الذنب والتقزز من النفس والغضب الموجه للداخل والرفض الذاتي.
ما الفرق بين الخزي والذنب؟
إن الخزي أكثر عمقًا وامتدادًا داخل نفوسنا من مشاعر الذنب المتعلقة بالأفعال. فالشعور بالذنب يتعلق بفعل ارتكبته (أنا فعلت فعلًا خاطئًا. أنا ارتكبت شيئًا ليس بصواب قمت بعمل غير سليم/ غير صحيح) أما الشعور بالعار/ الخزي فيتعلق بتكويني الذاتي بتركيبتي (أنا لستُ على ما يرام. أنا غير ملائم. أنا الخطأ نفسه أنا شيء شرير. وجودي نفسه ليس بصواب)، فلا يتعلق الخزي بكوني اقترفت شيئًا سيئًا بل بكوني أنا شخصيًّا شيئًا سيئًا!
* كثيرًا ما نغفل تلك الرابطة الدائمة والقوية بين ضحايا النكبات وبين الخزي، تملؤنا الحيرة حين ندركها وتساءل: (كيف يمكن لضحية الإساءة والصدمة أن يكبر ليصير متهمًا لنفسه رافضًا لذاته متقزِّزًا من تكوينه رغم كونه محض ضحية؟!)، إننا ننسى حقيقة كبرى وهي أن الفرد منا لا يمكن أن يحب ذاته حبًّا صحيًّا إلا إذا تلقَّى أولًا حبًّا صحيًّا.
تمامًا كاللغة؛ لا يمكنك أن تتعلم الكلام من تلقاء نفسك ما لم تتعرض لوسط يتكلم حولك وبيئة تمنحك الحصيلة اللُّغوية اللازمة لنمو ملكات اللغة فيك، وإنتاج عملية الكلام ومن ثَمَّم التواصل.
وهكذا الحب والشعور بالاستحقاق. سواء الحب الموجه تجاه الذات أو حتى تلقِّي الحب من الآخرين ومنح الحب لهم، ما يمكننا أن نسميه (لغة المشاعر الصحية والتواصل الوجداني). هو أيضًا كاللغة لا يمكنك أن تتعلمها من تلقاء نفسك، بل لا بُدَّ أن تنمو في بيئة صحيَّة تتواصل معك عَبرها بشكل سليم لتتمكَّن من اكتسابها، بيئة تمنحك الحب وتتواصل فيما بينها بالحب.
فماذا لو كانت تلك التُربة الأولى جافة وفقيرة، باردة أو مالحة، أو سامة؟ ماذا لو لم تشاهد في عالمك الأول سوى الضغينة ودوام الغضب والاستياء؟ ماذا لو لم تشاهد تواصلًا دافئًا تجاهك أو تجاه أفراد هذه البيئة فيما بينهم؟ كيف يمكنك أن تتعلم أن تحب أو تتلقى الحب، أو حتى تتعلم أن تحب نفسك حبًّا صحيًّا؟ هكذا ينمو الخزي كمعادل لكراهية الذات، أو بمعنى أكثر دقة: (عدم القدرة على توجيه الحب نحو الذات).
وهكذا نفهم لماذا لا يستطيع أولئك الذين نشأوا في أسر مفككة أن يحبوا أنفسهم، فقد حدث التشوُّه في بنية (لغة التواصل الوجداني)، وربما يظهر هذا التشوُّه في شكل انطوائية أو أزمة ثقة مع الناس، وأحيانًا على الطرف النقيض تعلُّق مرضي واعتمادية مفرطة، وأحيانًا استغلال للناس وتلاعب بهم؛ نتيجة الخلل الحادث في تلك اللغة التي تعلمناها المشوهة.
يمكنك الآن أن تفهم كيف يمكن أن يكون تأثير الأسر المعطوبة وتلك الصراعات الدائمة بين الأبوين على لغة التواصل لدى الأبناء (الإساءة المشهودة).
سلوك هزيمة الذات
مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائمًا، أما الحكماء فتملؤهم الشكوك.
بيرتراند راسل
ومن آثار هذا الخزي/ العار ما يمكن أن نسميه سلوك هزيمة الذات، وتلك السلوكيات تكاد تصبغ حياتنا بأسرها.
يكاد يقوم كلًّ منا بكل طريقة ممكنة بإفشال نفسه، والبقاء في أسوأ ظروف الحياة التي يستطيعها! ويقوم أثناء تلك السلوكيات لإفشال ذاته وهزيمة نفسه بعقلنة هذا الأمر ومنحه صبغة منطقية.
وهو ما يفعله كثيرًا ممَّن تسرَّبت إليه نواة الخزي وساهمت في تشكيل شخصيته. فمهما أوتي من مواهب وقدرات تجده بغرابة يحيا في مساحات واقعية ضيِّقة كثيرًا على إمكاناته، ووضع اجتماعي ومادي أقل كثيرًا مما يمكن لمواهبه أن تصل به في الظروف العادية.
ببساطة، نجد أصحاب المواهب المعطلة والطاقات المهدورة والإمكانات الدفينة والمُهمَّشُون رغم التفوق والقابلية الفريدة فيهم للتميُّز والبروز، يرسفون في قيود التشكيك الذاتي، فيشكُّون في أنفسهم ويشعرون بأنهم لا يستحقون وأن ما هم فيه هو قَدرُهم المكتوب، وكأن الحياة أو القدر أو الله لا يسمح لهم بأكثر!
تلك من آثار الشعور بعدم الاستحقاق الملازم للخزي.
وأحيانًا نمنح الأمر بُعدًا ثوريًّا ساخطًا لنبدو كضحايا لنظام حضاري استهلاكي يقوم على الواسطة لمحسوبيات التي ظلمتنا أو الظروف التي لم تكن في صالحنا!
بين الإبداع والألم!
ما هو ذلك الرابط بين الإبداع الفائق وبين الألم والاضطراب والإساءات والتجارب المفعمة بالوجيعة، لا أدري هل تفتح الإساءات بوابات خلفية في أذهان أولئك الذين تعرَّضوا لها؟ هل يؤدِّي ذلك الضغط المستمر الذي تمثله الإساءات في الطفولة إلى إخراج مَلَكات ذهنية مغايرة للمألوف تمامًا، كما يؤدي الضغط المستمر على الكربون إلى تحويله من فحم إلى ألماس؟
لماذا نجد في تاريخ أولئك الذي غيَّروا مجرى التاريخ حفريات الإساءة والألم والتمزق والتراجيديات الإنسانية العميقة؟! هل يدفع الحرمان والجوع النفسي أولئك المعرضين له للبحث عن مساحات أخرى من الإشباع، فتفتح لهم بوابات الشرود وربما تفتح عليهم مغاليق الملَكات الذهنية المغلقة أمام أولئك الذين شبعوا واكتفوا فتلاهوا؟
خوفنا الأعمق حقًا
هناك فيلم يمكننا أن نعده عاديًّا للغاية (المدرب كارتر) Coach Carter
كان المدرب يوجه سؤالًا لأحدهم ويكرره في مناسبات عدة (ما أكثر شيء تخشاه بحق في حياتك؟)
“إن خوفنا الأعمق حقًّا ليس ألا نكون كافين أو ألا نكون على المستوى المطلوب، إنما خوفنا الاعمق حقًّا هو أننا أكثر قوة وكفاية مما يمكننا تصوره.
إن نورنا وليس ظلامنا هو ما يخيفنا أكثر!
إن اكتفاءنا بالمساحات الصغيرة لا يليق بهذا العالم. لا شيء نوراني في الانكماش لئلا نثير مشاعر الدونية في الآخرين فيهاجموننا. إنما هو مقدرً لنا جميعًا أن نشع كالأطفال. وهذا لا يوجد عند البعض منا فقط… بل إنه هناك لدينا جميعًا.
وحين نسمح لنورنا بأن يسطع هناك في الكون فإننا حينها نمنح الآخرين إشارة البدء الملهمة ليفعلوا المثل. حين نتحرر من خوفنا يصبح وجودنا نفسه بالتبعية محررًا للآخرين!”.
يمكننا أن نمضي الوقت في لطمية على (السبع صنايع والبخت الضايع)، ولطالما أمضينا أسمارًا وأحاديث طويلة بعضها عاطفي للغاية عن طاقاتنا المعطلة ومواهبنا المهدورة، ونتندر على (الميديوكرز) و(الأوفريتد)، وعلى الرائجين من أشباه الموهوبين.
يمكن لهذا الأمر أن يمنحنا نوعًا من التخفيف لأنه يضعنا في صورة المناضلين، في صورة البطل الذي تحاربه المعوقات وتقف في طريقه التحديات، فيمنح حياتنا بُعدًا تراجيديًّا، ويجعلنا نلعب دور الضحية المنتفضة الرافضة للانبطاح!
ولكن الحقيقة أن الأمر ليس كذلك…
فإننا أحيانًا من نخشى النجاح، رغم كافة تبجحاتنا في كل تلك اللطميات عن الفرص المعاندة وعن النجاح الذي يفر منا كلما اقتربنا. فليست تلك هي الحقيقة؛ فإن داخلنا خوف عميق للغاية من نور إمكاناتنا أن يشع وينتشر.
ندّعي أننا مهمشون ومتروكون ومنبوذون ولا يؤبه لنا، ولكن بقعة ما عميقة للغاية من نفوسنا تخشى بشدة أن نصير مرئيين أو أن نجلس بالمكان المستحق لإمكاناتنا!
كم هو مخيف بشدة أن نقف هناك تحت الضوء فنصير عُرضة للنقد، والتقييم!
أن يتم تثميننا بكل ما فيه من تعطل وكبت وإهمال أكثر راحة من زاوية ما.
ربما نمنح الأمر بُعدًا وجوديًّا ونضفي عليه مَسحة عقلنة تبريرية ونواصل إلقاء اللوم وصناعة الشماعات، ولكن الحقيقة أننا بحق نُصالح هذا الخمول والتواري.
بين الخزي والاغتراب
“إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء”.
محمد الماغوط
إن كلًا منا فرد، أي: متفرَّد.. له بصمته الخاصة وكيانه الذاتي الذي لا يشبه أحدًا، ولا ينبغي له أن يشبه أحدًا، أو يحاكي أحدًا، أو يتقولب في قالب ليس على المقاس من تكوينه.
الطبيعة ليست ماكينة لصناعة القوالب، والرب مبدع لا يُكرِّر إبداعاته ولا ينشئ نسخًا متشابهة من ذات العمل الإبداعي، فهو لم يخلق الإنسان كجنس فحسب، بل كأفراد كل منهم له تفرُّداته التي تمنحه الفردية.
بل إن بعضنا لَيرى نفخة الروح فينا منحتنا نفخات نسبية من روح الله وصفاته، وهو ما يكرَّره الكتاب المقدس وبعض التفسيرات الإسلامية (خلق الله آدم على صورته)، أي أنه في اللاوعي الجمعي قد تأصَّل لدى الإنسان أنه قد حمل بعض صفات الرب ولكن بشكل نسبي، وتفرَّد الله بحمل إطلاقية الصفات.. فالإنسان يرحم برحمة الرب التي أودعها فيه، ويحب بحب الخالق الذي نقله إليه.
وأيضًا قد منحنا الله صفة (الفردانية) التي اختص بها نفسه، فكأن كلًّا منا (فرد) ولكن بشكل نسبي، أي: أننا لسنا متفردين في كل شيء، فقط في بعض المساحات، في زوايا بعينها تلك التي تشكل بصمتنا الخاصة.
فكما كان لكلًّ منا (بصمة أنامل)، و(بصمة صوت)، و(بصمة قرنية)، و(بصمة أذن)، فإن لنا أيضًا (بصمة الوجود) و(بصمة نفسية)، تلك التي إن اتَّسقنا معها وعرفناها وصالحناها وعبرنا بها تمنحنا تحقيق الذات والسلام النفسي.
وبغض النظر عن مسببات الوجود الإنساني بين الأديان والفلسفات، ولكننا لا نستطيع أن ننكر حقيقتين:
الأولى: أننا هنا الآن.
والثانية: أن كلًّا منا فرد متفرد يحيا هذا الوجود بنفسه، لا يُقاسمه تجربةَ الوجود أحدً، إنما هي تجربة فردية ذاتية بكل شعورها واختلاجات الوعي والإدراك فيها. ربما نترافق في الطريق، ربما تربطنا العلاقات، ولكن الوجود ذاته فردي للغاية، ستبقى هناك فجوة لا يمكن لأحد عبورها نحوك، نعم يمكنه أن يفهمك، أن يستوعب موقفك، أن يقبلك، لكن أن يستشعر تمامًا ما يمرُّ بك فسيكون دومًا الأمر مجرد مقاربة وشيكة، منفصلة عن كونك أنت من يتذوق الأمر.
وحدك تعرف كيف هو الأمر أن يكون المرء أنت! بكل ما فيك وحولك.
وحدك تتذوق وجودك هنا، والكل فقط يشاهد أو يشهد أو يقترب أو يتقمص، ولكنه ببساطة لن يكون أنت.
إذن فالوجود الإنساني يحمل فردانية.. فردانية في التكوين الفردي، وفردانية في مذاق تجربة الوجود نفسها بتكوينك وظروفك وأبعاد تجربتك الخاصة.
قد جعلت الحياة/ الرب لكلَّ منا معزوفته الخاصة التي ينبغي عليه أن ينشدها ويجب على الكون أن ينصت لها، بمثابة (مادة خام)، أو (قالب عقل) ينبغي تشكيلة وإخضاعه لعمليات تصنيعية صارمة باسم التربية أو الدين أو القولية الثقافية ليخرج المنتج النهائي وهو الإنسان، الإنسان بالمواصفات القياسية الاجتماعية.
وبالتالي بدلًا من معاملة (الذات الأصلية Real self) معاملة أنها تحوي (الإمكان)، أصبح التوجه العام نحو محوها وتجاهلها واستخدامها فقط لإنتاج الذات المثالية أو القياسية (Ideal Self Or Standard Self)، وبالتالي تم التغافل عن إمكانها وحالة (التفرد التكويني) فيها نحو فكر التشكيل التي تم منحها اسم التربية.
تمامًا كحالة التدجين والتفريخ والإنتاج الحيواني من أجل استخدام الحيوان في الأغراض التجارية، كإنتاج اللحم والألبان والمواد الغذائية والصناعية وغيرها، أصبح التركيز على (الإنتاجية) التي تعتمد الفاعلية والكمية وتتأثر بالنظرة التسويقية والاستهلاكية.
أصبح الطفل منا يتعرض لعملية تأهيل وتصنيع لذاته باسم التربية والثقافة والتقاليد، بل يتدخل فيها أحلام الآباء وربما طموحاتهم التي لم يستطيعوا تحقيقها، فقرَّروا أن يستمروا في مطاردتها عبر أبنائهم.
وخلال هذه العملية يفعلها البعض ببساطة ورقة وحكمة، ويحيد الأمر بالبعض عن جادة الصواب والتعقل حتى يخرج نحو التشويه والجنون.
يعاني بعضنا من (تسلط المعرفة) للأبوين ومحاولة مستميتة باسم التربية والمصلحة لإنتاج (طفل بالمواصفات القياسية)، يتحول إلى (بالغ منتج بفعالية).
يبدأ الطفل رحلة (تدريبية) مكثفة من (أفعل ولا تفعل)، ومن جنون (العقاب) والتشكيل، ومن (لازم يتربى)، و(لازم يتأدب)، (ويعرف إن الله حق)!
طرائق متعددة لكل منها تبريراته ووجاهة طرقه، بل بعضها يجد في الدين – وأحيانا العلم – مبررًا، وبعضها يستمد من التقاليد الثقافية، والبعض فقط هو إعادة إنتاج لما تم ممارسته على الأبوين، دعني أمنحك أمثلة:
* طفل يتم تربيته على دوام النهر والصياح: (افعل ولا تفعل)، يجد أبًّا دائم الغضب وأمًّا سريعة الانفعال دائمة الصراخ، غير مسموح بمساحة من الخطأ، وكل شيء ينبغي تقويمه، وهناك قاعدة مطلوبة منه دومًا (أن يسمع الكلام!) الطاعة، أن يصبح لينا قابلًا للتشكيل، أن يصبح مطواعًا بين يدي ميكنة صناعة القالب المطلوب منه.
* وطفل آخر أصبح وجوده محض مشروع للتفوق؛ ليصير طبيبًا أو مهندسًا، ليحقق حلم الأبوين، بغض الطرف عن شغفه ورغباته. أو ربما ليواصل ما بدأه الأبوان فيرث العيادة والمشفى أو المكتب أو الشركة وغير ذلك.
فيتحول الطفل إلى (مجند) بسلاح (التعليم)، ويصبح كل وجوده وفائدته منحصرة في مدى تفوقه وتحصيله الدراسي ومسابقته لأقرانه وتجاوزه لهم.
بل إن بعض أولئك الآباء لا يلتفتون لبعض اضطرابات أطفالهم وآلامهم النفسية حتى يؤثر الأمر على دراستهم وتفوقهم، وحينها يصبح فقط هذا (العرض) أهلًا لانتباههم!
هذا الطفل الذي تصله رسالة ضمنية غير ملفوظة (أنت محبوب ما دمت متفوقًا. أنت غير مستحق للحب إلا إذا كنت تنجز شيئًا ما)، قيمته الذاتية واستحقاقه للقبول والحب تصبح مستمدة فقط من تحصيله الدراسي وعدَّاد درجاته.
* وطفلة أخرى يتم تنشئتها على عوار العورة، كل شيء يخرج منها سيتم رؤيته في إطار (العيب) و(الحرام)، بل تصلها رسالة ضمنية غير ملفوظة (أن وجودها ذاته عورة ينبغي دفنه ومواراته)، وأن وظيفتها في الحياة (سنيدة) أو (ممثل مساعد) للبطل الذي يحارب!
أي: أنها ليست فقط (منتجًا) إنما (منتج تكميلي).. محض إضافة للمنتج الأصلي (الرجل) ممثلًا في (الأب) كثير الطلبات سريع الغضبات صاحب السلطة المطلقة، أو (الأخ) بامتيازاته الاستثنائية في المواعيد والسماحات، أو (الزوج) المستقبلي بمعايير اختياراته وانتقاءاته.
حتى وصل الأمر أن يكون الزواج للرجل كانتخاب ينتقي منه ما أراد، وللأنثى في أحسن الأحوال كاستفتاء بين (نعم) و(لا)، كأقصى ما يمكنها الحصول عليه، وربما بعض صراع يظن البعض فيه أنه تفضل عليها بمنحها تلك المساحة من القبول والرفض.
* وطفل رابع يتم تنشئته في عالم منفصم عن الواقع، عالم يطالبه دومًا بأن يكون مثاليًّا، فيتم إرساله للمدرسة التي تحمل المناهج الأكثر توسعًا، ثم يخرج منها على حلقة التحفيظ، ثم نحو التمرين الرياضي الذي يُطالب بأن يكون من أبطاله، ثم لا بأس بعدها بـ (درس) الموسيقى أو لعبة رياضية أخرى، ربما حينها يكون لديه السماح الكافي ليكون طفلًا لبعض الوقت فيلهو بألعابه قبيل نومه المبكر لاستيقاظه الصباحي ليوم تدريبي جديد، وربما تكون حتى تلك الألعاب لها غرض تعليمي أو تثقيفي يساهم في بناء شخصيته!
وغير ذلك من الأنماط التي يصعب حصرها.
خلال هذه العملية من التخليق الدائم والتصنيع المستدام يمنح الأطفال أكثر تربة مالحة يمكن أن تنشأ بها بدورهم تربة (الحب المشروط).
يصلهم جميعًا رسالة ضمنية (أنت لست محبوبًا هكذا كما أنت)، (أنت محبوب فقط في الصورة النهائية المطلوبة منك)، بل ربما تصبح الرسالة ملفوظة أحيانًا؛ (بحبك وأنت بتسمع الكلام)، (بحبك عشان أنت متفوق وبطل).
يصل الطفل رسالة أنه غير مستحق للحب ما لم يصر شيئًا آخر يطلبه منه المجتمع أو الأبوان، أن ما يمكنه أن يكون محبوبًا منه هو (الذات المثالية) أو (الإنسان القياسي).
هنا يتخلى الإنسان عن نفسه الحقيقية ويقرر أن يكون شخصًا آخر غيره، شخصًا على المقاس مما يطلبون منه أن يكون، يكره الذات الحقيقية ويتحرج منها، ويسعى نحو الذات الجديدة المفبركة المصنوعة بعوامل عديدة (الذات المثالية).
فتلك الذات ليست ذاته، وذلك الطريق ليس بالضرورة أن يناسبه، وتلك الرحلة لم تكن من اختياره، فيشعر بالقلق والاغتراب عن نفسه، وهنا يحدث التعثر، فلا البذرة تحققت إمكاناتها ولا الذات الأصلية قد بقت، فتفقد قرار التخلي عنها، وغالبًا لم يستطع الوصول للذات المثالية فيبدو أن معاييرها تتغير باستمرار وتتطور وتبعد عنه كلما حاول الاقتراب منها وتحقيقها.
وبالتالي حين يحدث الاغتراب عن الذات التي قد تفككت، تظل الحيرة والتوهة والتشتت وأزمة الهوية، وتتصاعد أسئلة: (من أنا)، و(ماذا أريد؟).
النتاج النهائي لعملية التشويه باسم التربية تلك كانت مزيجًا من الخزي والغربة والحيرة وذوبان الهوية.
ولكن تبقى أشياء من هذه الذات المنسية الأصلية تتشرب رغمًا عنا، تتطفل على حياتنا، تتسلل إلى السطح، تشعرنا بالتيه أكثر والقلق والجرح، وتهدد بناءنا النفسي الهش الذي أقمناه أو أقاموه لنا حين تخبرنا أننا لسنا كما نظهر، وكأنها تحاول أن تذكرنا بما فقدناه وتعيدنا لذواتنا وترفع عنا تلك الغربة تحت جلودنا.
للاطلاع على الكتاب بأكمله:
للاطلاع على الجزء الأول:
https://asmaanawar.com/dad-who-i-hate-1/